كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الْبَيِّنَةُ}. وَهُمْ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ قَبْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بَلْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْأَنْبِيَاءِ كَمَا قال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} وَقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} وَقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إنَّ اللَّهَ نَظَرَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ إلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَإِنَّ رَبِّي قال لِي: قُمْ فِي قُرَيْشٍ فَأَنْذِرْهُمْ. فَقُلْت: أَيْ رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدَعُوهُ خُبْزَةً. فَقال: إنِّي مُبْتَلِيك وَمُبْتَلٍ بِك وَمُنْزِلٌ عَلَيْك كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقرأهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَا. فَابْعَثْ جُنْدًا نَبْعَثُ مِثْلَيْهِمْ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَك مَنْ عَصَاك» وَالْحَدِيثُ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى الْآيَةِ فَنَقول: الْقول الثَّالِثُ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ لَفْظًا وَمَعْنًى. أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَالَتِهِ وَبَيَانِهِ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الإنسان يَعْنِي اخْتِيَارَهُ وَيَقْهَرُ عَلَيْهِ إذَا تَخَلَّصَ مِنْهُ. يُقال: انْفَكَّ مِنْهُ كَالْأَسِيرِ وَالرَّقِيقِ الْمَقْهُورِ بِالرِّقِّ وَالْأَسْرِ. يُقال: فَكَكْت الْأَسِيرَ فَانْفَكَّ وَفَكَكْت الرقبة.
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رقبة} وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «عُودُوا الْمَرِيضَ وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِي». وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا سُئِلَ عَمَّا فِي الصَّحِيفَةِ فَقال: فِيهَا الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرِ. فَفَكُّهُ: فَصْلُهُ عَمَّنْ يَقْهَرُهُ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا. وَيُقال: فُلَانٌ مَا يَفُكُّ فُلَانًا حَتَّى يُوقِعَهُ فِي كَذَا وَكَذَا وَالْمُتَوَلِّي لَا يَفُكُّ هَذَا حَتَّى يَفْعَلَ كَذَا يُقال لِمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ إمَّا بِقُدْرَةِ وَقَهْرٍ وَإِمَّا بِتَحْسِينِ وَتَزْيِينٍ وَأَسْبَابٍ حَتَّى يَصِيرَ بِهَا مُطِيعًا لَهُ.
وَيُقال لِلْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ: هُوَ مَا يَنْفَكُّ مِنْ هَذَا كَمَا لَا يَنْفَكُّ الْأَسِيرُ وَالرَّقِيقُ مِنْ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ. فَقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} أَيْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ يَفْعَلُونَ مَا يَهْوَوْنَهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ الْمُنْفَكَّ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ. وَهُوَ لَمْ يَقُلْ (مَفْكُوكِينَ) بَلْ قال: {مُنْفَكِّينَ}. وَهَذَا أحسن فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِفِعْلِهِمْ. وَلَوْ قال (مَفْكُوكِينَ) كَانَ التَّقْدِيرُ: لَمْ يَكُونُوا مُسَيِّبِينَ مُخِلِّينَ فَهُوَ نَفْيٌ لِفِعْلِ غَيْرِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَتْرُوكِينَ لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ وَلَا تُرْسَلُ إلَيْهِمْ رُسُلٌ بَلْ يَفْعَلُونَ مَا شَاءُوا مِمَّا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَا يُخَلِّيهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ. فَهُوَ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولًا. وَهَذَا كَقوله: {أيحسب الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} لَا يُؤْمَرُ وَلَا ينهى. أَيْ أَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَكُونُ؟ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَلْبَتَّةَ؛ بَلْ لابد أَنْ يُؤْمَرَ وَينهى. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}. وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ أَيْ لِأَجْلِ إسْرَافِكُمْ نَتْرُكُ إنْزَالَ الذِّكْرِ وَنُعْرِضُ عَنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ. وَمَنْ كَرِهَ إرْسَالَهُمْ؟
فَإِنَّ الْأَوَّلَ تَكْذِيبٌ بِوُجُودِهِمْ وَالثَّانِي يَتَضَمَّنُ بُغْضَهُمْ وَكَرَاهَةَ مَا جَاءُوا بِهِ.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} وَقال عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} وَأَمَّا مَنْ كَذَّبَ بِهِمْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ. وَلَكِنْ مَنْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ رَسُولًا وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا ينهى فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا ذَمَّهُ اللَّهُ إذَا كَانَ لابد مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا لابد مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَقِيَامِ الْقِيَامَةِ. وَلِهَذَا يُنْكِرُ سبحانه عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فَقال تعالى: {وَمَا خلقنا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} وَقال تعالى: {وَمَا خلقنا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} {إنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وَقال: {وَخلق اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
وَقال عَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خلق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خلقتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَنَحْوُهُ فِي القرآن مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأمر وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالْمَعَادَ مِمَّا لابد مِنْهُ. وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَوْ حَسِبَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ. وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُوبَ وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَقَعُ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ تَصْدِيقِ الْخَبَرِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ. فلابد مِنْ وُقُوعِ مُخْبِرِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ وَعْدِهِ وَخَبَرِهِ. فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فلابد أَنْ يَكُونَ. فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ وَكَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ شَاءَ ذَلِكَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ولابد أَنْ يَقَعَ كُلُّ مَا شَاءَهُ. لَكِنْ هَلْ يُقال: إنَّ الْمَشِيئَةَ مُوجِبَةٌ فِيهِ نِزَاعٌ. وَكَذَلِكَ يُقال: إنَّ ذَلِكَ وَجَبَ لِإِيجَابِهِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِاقْتِضَاءِ حِكْمَتِهِ ذَلِكَ فِيهِ أَيْضًا نِزَاعٌ. وَمَا أَقْسَمَ لَيَفْعَلَنهُ فلابد أَنْ يَقَعَ. وَالْقَسَمُ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الْخَبَرِ وَمَعْنَى الْحَضِّ وَالطَّلَبِ. لَكِنَّ فِي ثُبُوتِ الثَّانِي فِي حَقِّ اللَّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ النَّاسِ كَقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} وَقوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وَاَلَّذِينَ قالوا إنَّ حِكْمَتَهُ أَوْ حُكْمَهُ أَوْ مَشِيئَتَهُ تُوجِبُ ذَلِكَ يَقولونَ: إنَّ ذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ. فَيَقولونَ: أَنَّهُ قَدْ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لابد مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ. وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَهَذَا قول كَثِيرٍ مِنْ الطَّوَائِفِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقول: لَا يعلم شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالْخَبَرِ وَهَذَا قول الْجَهْمِيَّة وَالْأَشْعَرِيَّةِ. وَذَاكَ قول الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَالْحَنَفِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَأَمَّا أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَمِنْهُمْ مَنْ يَقول بِهَذَا وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مَعَ السَّلَفِ يُثْبِتُونَ الْحِكْمَةَ وَالتَّعْلِيلَ. وَإِنَّمَا يَنْفِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةَ. كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ. وَكَذَلِكَ جُمْهُورُهُمْ يُثْبِتُونَ لِلْأَفْعَالِ صِفَاتٍ بِهَا كَانَتْ حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً قَبِيحَةً. لَا يَجْعَلُونَ حُسْنَهَا وَقُبْحَهَا تَرْجِيحًا لِأحد الْأمريْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ كَمَا تَقوله الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ.
هَذَا قول الْأَئِمَّةِ وَالْجُمْهُورِ كَمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالْجُمْهُورَ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. لَا يَقولونَ بِقول مَنْ أَنْكَرَ الْقَدَرَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَلَا بِقول مَنْ أَنْكَرَ حِكْمَةَ الرَّبِّ مِنْ الْجَهْمِيَّة الْمُجْبِرَةِ وَنَحْوِهِمْ. فَلَا يَقولونَ بِقول الْقَدَرِيَّةِ الْنُّفَاةِ لِلْقَدَرِ وَلَا بِقول الْقَدَرِيَّةِ الْمُجْبِرَةِ الَّذِينَ يَسْتَلْزِمُ قولهمْ إنْكَارَ الْأمر وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْجَزَاءِ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لاسيما مَنْ أَفْصَحُ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَوْ قال: إنَّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْأمر وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ. فَآمَنُوا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْجُمْلَةِ وَأَوْجَبُوا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَآمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَاجْتَهَدُوا فِي مُتَابَعَةِ الرُّسُلِ. لَكِنْ أَخْطَئُوا حَيْثُ نَفَوْا الْقَدَرَ وَظَنُّوا أَنَّ إثْبَاتَهُ يُنَاقِضُ الْأمر وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إيمَانُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَادِلٌ صَادِقٌ حَتَّى يُكَذِّبُوا بِالْقَدَرِ وَبِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ النَّارِ وَلَا يَرْحَمُهُ أَبَدًا. فَلَمْ يُجَوِّزُوا أَنْ يُعَذَّبَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ يُرْحَمَ بَلْ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ لَهُ ذَنْبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ لَمْ يُرْحَمْ أَبَدًا. وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَتَعَمَّدُوا تَكْذِيبَ الرُّسُلِ فَقولهمْ هَذَا يَتَضَمَّنُ مُخَالَفَةَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خُرُوجِ أَهْلِ الذُّنُوبِ مِنْ النَّارِ وَشَفَاعَةِ الشُّفَعَاءِ فِيهِمْ. وَيَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ آيَسُوا الْخلق مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِعُمُومِ خلق اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَشَاؤُهُ وَلَا يَخلقهُ. وَتَشَبَّهُوا بِالْمَجُوسِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى قِيلَ: الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَابَلَهُمْ أُولَئِكَ فَتَوَقَّفُوا فِي خَبَرِ اللَّهِ مُطْلَقًا حَتَّى أَنْكَرُوا صِنْفَيْ الْعُمُومِ فَلَمْ يعلموا بِخَبَرِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. فَلَا يَجْزِمُونَ بِالنَّجَاةِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يعلم اللَّهُ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ طَاعَةً لِلَّهِ إذَا كَانَ لِأحدهِمْ سَيِّئَةٌ واحدة صَغِيرَةٌ. وَلَا بِالْعَذَابِ لِلصِّنْفِ الَّذِينَ يعلم اللَّهُ أَنَّهُمْ أَفْجَرُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَشَرِّهَا؛ بَلْ يُجَوِّزُونَ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِهَذَا وَبِهَذَا أَنْ يُعَذِّبَ أَهْلَ الْحَسَنَاتِ الْكَبِيرَةِ عَلَى سَيِّئَةٍ صَغِيرَةٍ عَذَابًا مَا يُعَذِّبُهُ أحدا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ يُدْخِلَ فُجَّارَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْجَنَّةَ مَعَ السَّابِقِينَ الأولين. وَبَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَهُ مَقَامٌ آخَرُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ دَلَّتْ عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَوَاضِعُ أُخَرُ مِنْ القرآن مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إلَى النَّاسِ تَأمرهُمْ وَتَنْهَاهُمْ يُرْسِلُهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ كَمَا قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} يُنْذِرُونَ الَّذِينَ أَسَاءُوا عُقُوبَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَيُبَشِّرُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ و{أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} فَقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَدَعَهُمْ وَيَتْرُكَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ. بَلْ لَا يَفُكُّهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرَّسُولَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أحسنوا بالحسنى} وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ {حتى} حَرْفُ غَايَةٍ وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا كَمَا فِي قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الفجر} وَقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَنَظَائِرُ ذَلِكَ. فَلَوْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ وَيُؤْمِنُونَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَةِ قَدْ انْتَهَوْا وَآمَنُوا. فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِيهِمْ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ حَتَّى بُعِثَ لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا كُلَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ قَبْلَ إرْسَالِهِ إلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ بَعْدَ إرْسَالِهِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا. وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ. فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يعلمونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَا فِي الْكُتُبِ مِنْ بَعْثِهِ وَمِنْ أُمُورٍ أُخَرٍ. وَلَمَّا بُعِثَ فَقَدْ آمَنَ بِهِ خلق كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا كُلُّهُمْ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ. وَحِينَئِذٍ فَالْآيَةُ لَمْ تتضَمَّنْ مَدْحَهُمْ مُطْلَقًا كَمَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ. وَلَا تتضَمَّنُ ذَمَّهُمْ مُطْلَقًا كَمَا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ الرَّسُولُ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ مَا كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى التَّصْدِيقِ؛ بَلْ تَضَمَّنَتْ مَدْحَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالرَّسُولِ. وَذَمَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالْإِخْبَارُ أَنَّهُ لابد مِنْ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ فَيُؤْمِنُ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ.
قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتتلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتتلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}.
ثم إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ لابد أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ لِيُمَيِّزَ بِهِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ كَمَا قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيعلمنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيعلمنَّ الْكَاذِبِينَ} ثُمَّ قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. فالناس إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ أحد رَجُلَيْنِ. إمَّا رَجُلٌ آمَنَ بِهِمْ فِي الظَّاهِرِ فلابد أَنْ يُمْتَحَنَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ. وَإِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يُؤْمِنْ فَلَا يَفُوتُ اللَّهُ بَلْ هُوَ آخِذُهُ سبحانه وَتعالى. وَلِهَذَا انْقَسَمَ النَّاسُ فِي الرُّسُلِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُؤْمِنٌ بَاطِنٌ وَظَاهِرٌ وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَمُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُبْطِنٌ لِلْكُفْرِ. وَمِنْ حِينِ هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ حَصَلَ هَذَا الِانْقِسَامُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي صِفَةِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُسْتَضْعَفِينَ فَلَمْ يَكُنْ أحد يَحْتَاجُ إلَى النِّفَاقِ بَلْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَكْتُمُ إيمَانَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ. وَهَذَا مُؤْمِنٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. فَإِنَّهُ وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ لِبَعْضِ النَّاسِ لَمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ كَتَمَ عَنْهُ إيمَانُهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَمَعَ مَنْ يَأْمَنُهُ وَيَعْمَلُ بِمَا يُمْكِنُهُ وَمَا عَجَزَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ. وَلِهَذَا قال الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ نِفَاقٌ إنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ. وَلَكِنْ كَانَ بِمَكَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ كَمَا قال فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقول الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ ماذا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا}. وَهُوَ سبحانه قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِيمَانِ مَا كَانَ لِيَدَعَهُمْ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثُ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَمْتَحِنُهُمْ كَمَا قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وَقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تترَكُوا وَلَمَّا يعلم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وَقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقول الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَمْ يَكُنْ لِيَتْرُكَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ الرَّسُولَ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ. فَهَذَا مَعْنَى قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}. وَهُمْ إذَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْفُرُ. وَإِذَا قِيلَ: إنَّ الْآيَةَ تتضَمَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَهْتَدُوا وَيَعْرِفُوا الْحَقَّ وَيُؤْمِنُوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ إلَّا بِرَسُولِ يَأْتِي مِنْ اللَّهِ أَيْضًا؛ أَوَلَمْ يَكُونُوا مُنْتَهِينَ مُتَّعِظِينَ وَإِنْ عَرَفُوا الْحَقَّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَنْ يُذَكِّرُهُمْ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَاقِضُ ذَاكَ. بِخِلَافِ قول مَنْ قال: لَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ تَارِكِينَ لِمَعْرِفَةِ مُحَمَّدٍ وَلِذِكْرِهِ وَلَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ فِيهِ بَلْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ حَتَّى جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ فَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِهِ وَتَفَرَّقُوا. فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ قَطْعًا. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} وَلَمْ يَقُلْ (حَتَّى أَتتهُمْ) وَأُولَئِكَ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَى الْآيَةِ ظَنُّوا أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعَ الْمَاضِي وَأَنَّ الْمُرَادَ: مَا انْفَكُّوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إمَّا مِنْ كُفْرٍ وَإِمَّا مِنْ إيمَانٍ حَتَّى أَتتهُمْ الْبَيِّنَةُ. فَلَمَّا قِيلَ {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ. وَقال بَعْضُهُمْ: لَمَّا تَأْتِهِمْ كُلَّهَا. وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْمُضَارِعِ كَقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. فَإِنَّ الْمُرَادَ: مَا كَانُوا مَفْكُوكِينَ مَتْرُوكِينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ. وَهُوَ سبحانه قال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}. و(لَمْ) وَإِنْ كَانَتْ تَقْلِبُ الْمُضَارِعَ مَاضِيًا فَذَاكَ إذَا تَجَرَّدَ فَقِيلَ (لَمْ يَأْتِ) و(لَمْ يَذْهَبْ) فَمَعْنَاهُ (مَا أَتَى) و(مَا ذَهَبَ). وَأَمَّا إذَا قِيلَ (لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ هَذَا) و{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} فَالْمَقْصُودُ مَعْنَى الْفِعْلِ الدَّائِمِ مُطْلَقًا. وَإِذَا قِيلَ (لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ آتِيًا حَتَّى يَذْهَبَ إلَيْهِ فُلَانٌ) بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْت (لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ قَدْ أَتَى حَتَّى ذَهَبَ إلَيْهِ فُلَانٌ). وَلَوْ قِيلَ (مَا كَانَ فُلَانٌ فَاعِلًا لِهَذَا حَتَّى يَكُونَ كَذَا) كَانَ نَحْوُ ذَاكَ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ (مَا كَانَ فُلَانٌ قَدْ فَعَلَ حَتَّى أَتَى فُلَانٌ). فَنَفَى الْمُضَارِعَ الَّذِي خَبَرُهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَهُوَ الدَّائِمُ. وَالْمُرَادُ: لَمْ يَكُونُوا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مَتْرُوكِينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ. وَلَوْ قِيلَ هُنَا (حَتَّى أَتتهُمْ الْبَيِّنَةُ) لَمْ يَكُنْ مَوْضِعُهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الِانْتِهَاءَ عَنْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ لَقِيلَ (حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ) أَيْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ نَبِيٌّ يُعَرِّفُهُمْ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّعِظِينَ عَامِلِينَ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ. فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْمَاضِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ: (مَا زَالُوا كَافِرِينَ حَتَّى أَتَاهُمْ). فَالْآيَةُ تتضَمَّنُ الْإِخْبَارَ عَنْ وُجُوبِ إثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ وَامْتِنَاعِ الِانْفِكَاكِ بِدُونِهَا. لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ عَنْ عَدَمِ الِانْفِكَاكِ ثُمَّ ثُبُوتِهِ فِي الْمَاضِي. وَهُوَ كَمَا لَوْ قِيلَ (لَمْ يَكُونُوا يَنْفَكُّوا حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ) لَكِنْ هُنَا ذَكَرَ اسْمَ الْفَاعلينَ فَقِيلَ {مُنْفَكِّينَ}. وَهُوَ سبحانه لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لابد مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ إلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِتَقُومَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرُّسُلِ مَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ. فَبَيِّنَاتُ اللَّهِ وَحُجَّتُهُ قَامَتْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَهُوَ لَمْ يُعَذِّبْ واحدًا مِنْ الْحِزْبَيْنِ إلَّا بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ كَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى وَمَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ. فَإِنَّ اللَّه لَمْ يَدَعْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ حَتَّى أَرْسَلَ إلَيْهِمْ مُوسَى وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ. ثُمَّ لَمَّا آمَنَ بَنُو إسْرَائِيلَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ لَمْ يَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ. فَلَمْ يَكُونُوا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا نُهِيَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فَقِيلَ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}. وَالنَّاسُ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ هُمْ كَذَلِكَ. فَمَنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَكًّا حَتَّى تَأْتِيَهُ الْبَيِّنَةُ وَمَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ مِنْ الْأُمَمِ ثُمَّ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فَمَا اخْتَلَفُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ. وَمَا أمر الْجَمِيعُ {إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}. وَالْآيَةُ تَضَمَّنَتْ مَدْحَ الرَّبِّ وَذِكْرَ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحُجَّتِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَدْعُهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا كَمَا قال لِأَهْلِ الْكِتَابِ {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقولوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} الْآيَةَ. لَمْ تتضَمَّنْ مَدْحَهُمْ عَلَى بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ. فَإِنَّ هَذَا غَايَتُهُ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ لَا أَنْ يُحْمَدُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ الرَّسُولُ. فَإِنَّ هَذَا لَا يَقوله عَاقِلٌ وَلَمْ يَقُلْهُ أحد لاسيما وَأَهْلُ الْكِتَابِ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ بِأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ.
وَنَظِيرُ هَذَا فِي اللَّفْظِ قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقالكُمْ إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}. لَيْسَ الْمُرَادُ: مَا كُنْتُمْ بَالِغِيهِ فِي الْمَاضِي بَلْ هَذِهِ حَالُهُمْ دَائِمًا. فَقوله: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ} يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ حَالُهُمْ دَائِمًا. وَتَضَمَّنَتْ السُّورَةُ ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخلق وَمَا أمر اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الْعِبَادِ وَأَنَّ ذَلِكَ أمر لابد مِنْهُ لابد مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَبَيَانِ السُّعَدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّارِ. فَقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} جُمْلَةً فِيهِ بَيَانُ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَى الْجَمِيعِ. وَقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} فِيهِ إقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْلِ الشَّرَائِعِ وَذَمُّ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ. وَهَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ نَظِيرُهُمَا قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} ثُمَّ قال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فهدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}. وَمِثْلُ ذَلِكَ قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تتفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} ثُمَّ قال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} وَقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} فِي سُورَةِ (هُودٍ) وَسُورَةِ (عسق). ثُمَّ ذَكَرَ مَا أمر بِهِ الْجَمِيعُ بِقوله: {وَمَا أمروا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}. ثُمَّ ذَكَرَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَعَاقِبَةَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.